تعليم الموسيقا بين مهارات المُدرِّس والفنَّان

العزف على الآلة الموسيقية تجربة تجمع بين التعلّم و التدريب الجسدي و الإختلاف يجعل من كل تجربة تعليمية تجربة خاصّة، و هل تعلّم الموسيقا ممكن للجميع؟     إن اختلاف الإمكانيّات الفردية والإدراكية بين البشر (متعلّمين ومعلّمين) يؤدّي إلى تعقيد العمليّات التّعليميّة بشكل عام، لأن هذا الإختلاف يجعل من كل تجربة تعليمية تجربة خاصة. فلكل…


25/05/2020

العزف على الآلة الموسيقية تجربة تجمع بين التعلّم و التدريب الجسدي و الإختلاف يجعل من كل تجربة تعليمية تجربة خاصّة، و هل تعلّم الموسيقا ممكن للجميع؟

 

 

إن اختلاف الإمكانيّات الفردية والإدراكية بين البشر (متعلّمين ومعلّمين) يؤدّي إلى تعقيد العمليّات التّعليميّة بشكل عام، لأن هذا الإختلاف يجعل من كل تجربة تعليمية تجربة خاصة. فلكل إنسان هويَّة فردية تتضمن استعداداته الوراثية الجسدية والنفسية، تضاف إليها التّجارب والخبرات المُكتسبة، التي عاشها الى حين البدء بعملية التَّعَلُّم. كل ذلك يلعب دوراً في تفاوت سرعة تلقّي المعلومات ومعالجتها واستيعابها، وبالتالي تفاوت سرعة التنفيذ والتقدّم في التّعلّم بين البشر.

أما في مجال الموسيقا، فيمكن القول أن الأمر أكثر تعقيداً؛ لأن العزف على الآلة الموسيقية تجربة تجمع بين التعلّم و التدريب الجسدي و الذهني:

– التعلّم، بمعنى إعطاء المتعلم معلومات ذهنية.
– التدريب الجسدي والذهني، بمعنى تطوير مهارات المتعلم الجسديّة، الحركيّة، الحسّية والإدراكية المستخدمة في تقنيات العزف مثل: (السمع، البصر، اللمس، التوقيت والإحساس بالزمن)، بالإضافة الى تنمية الانسجام والتنسيق بين الجهاز الدّعامي الحركي من جهة والجملة العصبية والأعضاء الحسيّة من جهة أخرى.  تعليم الموسيقا

* ملاحظة: قمت بإضافة التوقيت كجزء من الأحاسيس؛ لأن الإحساس بالوقت ضمن جُمل المقارنة الزمنية هو أمر مهم جداً في تَعلّم الموسيقا، فالتوقيت، أعني به الانسجام مع الإيقاع في حالة وجود إيقاع، و هو الحساسية تجاه عنصر الزمن في حال عدم وجود إيقاع.

 مما سبق نرى أنّ عملية التعليم والتدريب الموسيقي، هي عملية معقدة نظراً لوجود مزيج من المهارات الذهنية والجسدية والحسِّية، التي يُفترض أن يحصل المُتعلم عليها. وهنا لا بد لِمُعلِّم الموسيقا من تطوير مهاراته في التعليم والتدريب حتى يستطيع أن يقدم ما لديه من المعرفة والمهارة للمتعلمين على اختلاف إمكانياتهم الفردية؛ وعلى عكس المتوقع، فإن مهارة التعليم لا تُقاس بمهارات العزف والأداء الذاتي لمعلم الموسيقا. حيث من الممكن أن نجد الكثير من العازفين المهرة لكنهم في كثيرٍ من الأحيان، غير قادرين على أن يصدّروا مهاراتهم للمتعلمين لأنهم لا يمتلكون مهارة نقل المعرفة والتدريب. كيف ذلك؟ تدريس الموسيقا تعليم الموسيقا  تدريس الموسيقا تدريس العود

لمحاكاة الموضوع، سأطرح مثالاً عن إحدى الرياضات التي تتطلب مهارات جسدية وحسّية عالية مثل الملاكمة:

 ليس كل لاعب ملاكمة بمدَرِّب ناجح، صحيح أنه من الممكن أن يصبح مُدَرِّبَاً وأن ينجح في مجال التدريب _ في حال تعلّم كيفية تدريب الآخرين، بالدراسة أو الممارسة أو بالتأثير_ ولكن كونه لاعب ناجح، لا يجعل ذلك منه بالضرورة مدَرِّب ناجح.

في الوقت ذاته ليس كل مدَرِّب بملاكم ناجح، فمن الممكن أن يكون لاعباً ناجحاً في حال ممارسته الذاتية للتدريب وبقاءه على استعداد دائم للمباريات، ولكن ليس من الحتمي أن يكون لاعباً ناجحاً؛ فقط لكونه مدرباً ناجحاً.
ما سبق يمكن تلخيصه بالقول أنه: ليس من الضروري أن يكون أنجح لاعب في العالم هو نفسه أنجح مدرب، والعكس صحيح.

بالعودة لتعليم الموسيقا، العازف الماهر ليس في كل الأحوال مدرّس ناجح لآلته الموسيقية؛ لأن مهارات الأداء التنفيذي للموسيقا ليست هي نفسها مهارات تدريس الموسيقا وتصديرها للآخرين.
فمن يمتلك مهارات التدريس ليس من الضروري أن يكون عازفاً ماهراً، وفي الوقت نفسه لا بد له من إتقان حدٍ كافٍ من المهارات الذاتية (المَرْحَليِّة) لتصديرها للمتعلمين، لأن فاقد الشيء لا يعطيه. فمهارة التدريس تَظْهر في مقدار تَطَوير المُدرس لإمكانيات المتعلمين الإدراكيّة والأدائيّة  وليس في آداء المعلم كعازف.

تعليم الموسيقا

من تجربتي التدريسية المستمرّة منذ عام ٢٠٠٧ وحتى الآن، سأجيب على بعض التساؤلات الأساسية:

 

أولاً: هل تَعلّم الموسيقا ممكن للجميع؟

من تجربتي أستطيع الإجابة ب نعم, ولكن بشكل متفاوت كمّاً و نوعاً و بفوارق زمنية متفاوتة، وذلك بسبب الفوارق الفردية التي ذكرتها سابقاً، والتي تحوي على أجزاء موروثة وأجزاء مكتسبة، والتي بدورها سوف تؤثر سلباً أو إيجاباً على عمليات التّعلّم والتدريب و بالتالي على النّتاج الموسيقي.


ثانياَ:
هل الجمع بين مهارتي التعليم والأداء الموسيقي أمر مستحيل؟

بالطبع لا، لكنه ليس سهلاً كما يبدو، ولا بدّ من الانتباه الى أن المجالين مختلفان -وإن تشابها بالشكل قليلاً- لكن مضمونهما مختلف. كما ذكرنا سابقاً  إنّ العازف الماهر ميدانه أداءه الذاتي في الحفلات أو الأستوديوهات، أما المُدَرِّب أو المعلم، فميدانه تدريب الآخرين (المتعلمين) في غرف التمرين و معاهد الموسيقا. وهذا ما يفسّر عجز العديد من العازفين المهرة عن تعليم وتطوير أداء بعض المتعلمين.
لماذا بعض المتعلمين وليس كلهم؟

بسبب وجود نسبة من المتعلمين، ممن يمتلكون شراهة وشغف للتعلم و يمتلكون القدرة على المحاكاة والمحاكمة والتعلم الذاتي، فتجد منهم من لا يحتاج لمعلّم ماهرٍ أصلاً، ففي هذه الحالة، وجود معلّم ذو كفاءة تعليمية محدودة قد يفي بالغرض. لا سيما أن دور المعلم في تعليم الآلة الموسيقية لا يتجاوز في أفضل الحالات _بحسب رأيي الشخصي _ الـ 30% من إجمالي الجهد المبذول، وباقي الـ 70% هي جهود ذاتية وتجريب من قِبَل المتعلم نفسه.


ثالثاً: هل أقصد أيضاً أن المعلّم ممكن أن ينجح مع تلاميذ معيّنين ويفشل مع آخرين؟
تعليم الموسيقا 

نعم بكل تأكيد، فالمعلم بشر، والمتعلم بشر، والبشر يختلفون ويتوافقون في العديد من الخصائص، منها خصائص التواصل والتعبير والاستقبال التعليمي. وهذا يعني أيضاً، أنه في حال عدم تقدّم الطالب في تعلّم العزف على الآلة الموسيقية، يُنصح بعدم الاستسلام وبإعادة المحاولات مع مُعلّمين مختلفين،
و لا أعني  معلمين مختلفين بالاسم والشكل وطول اللحية الموسيقية، إنما معلمين مختلفين بالخبرة والأساليب التعليمية.

 

رابعاً: هل يمكن لإنسان ما أن يُعلّم نفسه ذاتياً على الآلة الموسيقية ؟

نعم يمكن ذلك، بالتجريب والبحث والمقارنة والمحاكاة، كل ذلك يُمَكِّن الإنسان من تعلّم الكثير المهارات الأدائية، لكن الكثير وليس كل شي.

 

خامساً: هل يمكن لشخص ما أن يعرف كل شيء عن الموسيقا ؟

قطعاُ لا، فلا يمكن لطبيبٍ أن يعرف كل شيء عن الطب، ولا لمهندسٍ أن يعرف كلَّ شيء عن الهندسة، ولا لمزارعٍ أن يعرف كلَّ شيء عن الزراعة؛ والسَّبب البديهي هو محدودية الإدراك البشري.

 

سادساً: من هو المدّرس النّاجح ؟ 

دعوني أُعرّف الأمور بعكوسها، من وجهة نظري، المدرّس الكسول يفضِّل انتخاب التلاميذ ذوي الكفاءة العالية، لكي يحقق نجاحاً بأقل مجهود ممكن. أما المدرّس النّاجح فهو المدرّس المُجتهد ،الذي يستطيع تطوير مهارات أي مُتعلّم، مهما كان ضعيفاً، ولا يعجز عن ذلك، وينتهز فرصة وجود متعلمين ذوي إمكانيات محدودة حتى يطور من أدواته وأساليبه التعليمية؛ ليرفع من مستوى قدراتهم، وبهذا يكون نجاحه. سواء امتلك هذا المدرّس شهادات جامعية أم لم يمتلك وسواء امتلك مهارات آدائية عالية أم لم يمتلك، فجهوده التّعليمية ستُلاحَظ في تطور المتعلمين لديه.

 

الخلاصة:

– عندما تريد تَعَلُّم الملاكمة يجب أن تبحث عن مُدرِّب ملاكمة ذو خبرة، وليس عن ملاكمٍ بطل. لا ضَير إن اجتمع الاثنان في واحد، لكن بطولة معلّمك لن تنفع في تدريبك.

– عندما تريد تعلّم لغة جديدة، فابحث عن مدرّسٍ للّغة المطلوبة ذو خبرة في تدريس الأجانب، وليس عن أديب أو شاعر في تلك اللغة. لا ضير إن اجتمع كلاهما في واحد، لكنّك لن تحتاج الأديب فيه.

– وبالمثل عندما تريد أن تتعلم عزف الغيتار (مثلاً) فابحث عن مدرّس غيتار ذو خبرة في التدريس، وليس عن عازف غيتار فقط، ولا ضَيرَ إن كانا مجتمعين في شخصٍ واحد. لكنك تحتاج المدرّس.

 

مصطفى كاكور مدرّس عود
ألمانيا ـ فرانكفورت ٢٥\٥\٢٠٢٠

تعليم عود مصطفى كاكور